كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: إنّ المراد بالمحصنات الحرائر، وقوله: {إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} إلا ما ملكتموهنّ بعقد زواج صحيح، وهذا ليس بظاهر، لأنّ اللّه قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} [المؤمنون: 5، 6] فجعل ما ملكت أيمانهم مقابلا للأزواج، والقرآن يفسّر بعضه بعضا.
{كتب الله عليكم} مصدر مؤكّد أي: كتب اللّه ذلك- وهو تحريمه ما حرّم عليكم- كتابا، وفرضه فرضا.
{وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
{وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} عطف على قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} ومن قرأها بالبناء للفاعل عطفها على كتب المقدر.
{محصنين}: أعفّاء.
{مسافحين}: زناة، من السفاح وهو الزنى، مأخوذ من السفح، وهو صب الماء، لأنّ الزاني لا غرض له من فعلته إلا ذلك.
{أَنْ تَبْتَغُوا} مفعول لأجله، أي: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} إرادة {أَنْ تَبْتَغُوا} السناء {بِأَمْوالِكُمْ} حالة كونكم أعفّاء غير زناة، فلا تضيّعوا أمولكم في الزنى، فتذهب أموالكم، وتفتقروا، ويجوز أن يكون قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ} بدلا من قوله: {ما وَراءَ ذلِكُمْ}، واسم الإشارة في قوله: {ذلِكُمْ} يرجع إلى المحرّمات المذكورة قبل، وقد اعترض على ذلك بأنّ هذا يقتضي أنّ المحرمات هي من ذكرن، وأنّ من عداهن حلال، مع أنه قد ثبت حرمة نساء غير من ذكرن، وذلك كالمبتوتة، وما زاد على الرابعة، والملاعنة، والجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها.
أما الجمع بين المرأة وعمتها فقد فهم تحريمه من قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} بطريق القياس، لأنّ العلة في تحريم الجمع هي القرابة القريبة، فكلّ من بينهما قرابة قريبة حرم الجمع بينهما، فجاز أن يقال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} أي من ذكرن أي إما بطريق النص، أو بطريق القياس.
ومن يجوّز تخصيص القرآن بخبر الواحد المشهور يقول: إنّ آية الحلّ خصّصت بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا المرأة على خالتها».
وأما البقية: غير الملاعنة فقد خصّصت آيات تحريمهن آية {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ}.
وأما الملاعنة فقد خصّص الآية قوله صلّى اللّه عليه وسلّم فيها: «المتلاعنان إذا تفرّقا لا يجتمعان قبل موته».
{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ما واقعة على الاستمتاع، والعائد في الخبر محذوف، أي فآتوهن أجورهن عليه. كقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43] أي منه، ويجوز أن تكون واقعة على النساء، وأعاد الضمير في (به) عليها باعتبار اللفظ، وفي {مِنْهُنَّ} باعتبار المعنى، وقوله: {فَرِيضَةً} معمول لفرض محذوف، والمراد بالأجور المهور، لأنها في مقابلة الاستمتاع، فسميت أجرا.
{وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} من حطّ لكله أو بعضه، أو زيادة عليه.
أمر بإيتاء الأزواج مهورهن، وأجاز الحط بعد الاتفاق برضا الزوجين وعلى ذلك تكون الآية نزلت في النكاح المتعارف.
وقيل: نزلت في المتعة، وهي أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين، وكان الرجل ينكح امرأة وقتا معلوما ليلة، أو ليلتين، أو أسبوعا بثبوت أو غير ثبوت، ويقضي منها وطرا، ثم يتركها.
واتفق العلماء على أنها كانت جائزة، ثم اختلفوا، فذهب الجمهور إلى أنها نسخت، وذهب ابن عباس إلى أنها لم تنسخ، وهناك رواية عنه أنها نسخت، وروي أنه رجع عن القول بها قبل موته.
والراجح أنّ الآية ليست في المتعة، لأنّ اللّه ذكر المحرّمات في النكاح المتعارف، ثم ذكر أنه أحلّ ما وراء ذلكم، أي في هذا النكاح نفسه.
والراجح أنّ حكم المتعة الثابت بالسنة قد نسخ، لما أخرج مالك عن علي أنّ الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية.
وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: غدوت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فإذا هو قائم بين الركن والمقام مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول: «يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا وإنّ اللّه قد حرّمها عليكم إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنّ شيء فليخلّ سبيلها، لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا».
وروي عن عمر: لا أوتى برجل تزوّج امرأة إلى أجل إلّا رجمتهما بالحجارة.
ويدل على تحريم المتعة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} والمستمتع بها ليست ملك يمين بالاتفاق، وليست زوجة لانتفاء خصائص الزوجية عنها، لأنها لا ترثه، ولا يلحق به ولدها.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا بمصالح عباده حَكِيمًا فيما شرع لكم من الأحكام، ولذلك شرع لكم هذه الأحكام اللائقة بحالكم.
قال اللّه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)}.
وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إلى قوله مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ}.
أصل الطّول الفضل والزيادة، والمراد به هنا الزيادة في المال والسّعة.
والمراد بالمحصنات: الحرائر، بدليل مقابلتهن بالمملوكات.
لما بيّن اللّه من لا يحل من النساء ومن يحل منهن، بيّن لنا فيمن يحل أنه متى يحل؟ وعلى أي وجه يحل؟ فقال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} إلخ يقول: ومن لم يستطع منكم زيادة في المال، وسعة يبلغ بها نكاح الحرّة: فلينكح أمة من الإماء المؤمنات، وإذا ضممت إلى هذا القدر قوله تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} كان ظاهر الآية يدلّ على أنّ اللّه شرط في نكاح الإماء شرائط ثلاثة:
الأول: ألا يجد الناكح مالا يتزوّج به حرّة.
والثاني: أن يخشى العنت، وسيأتي بيانه.
والثالث: أن تكون الأمة التي يريد نكاحها مؤمنة، لا كافرة.
وإنما ضيّق اللّه في نكاح الإماء باشتراط هذه الشروط لما في نكاحهم من أضرار، أهمّها تعريض الولد للرق، لأن الولد يتبع الأمّ في الرق والحرية، فإذا كانت الأم رقيقة علقت بالولد رقيقا، وذلك يوجب النقص في حقّ الوالد وولده- وسنذكر بعض الأضرار عند قوله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}- وبهذا الظاهر تمسك الشافعيّ رضي اللّه عنه، وهو أيضا قول ابن عباس وجابر وسعيد بن جبير ومكحول وآخرين.
وروي أنّ مسروقا والشعبيّ قالا: نكاح الأمة بمنزلة الميتة والدم ولحم الخنزير، لا يحل إلا للمضطر.
وروي عن علي وأبي جعفر ومجاهد وسعيد بن المسيّب وآخرين أنهم قالوا: ينكح الأمة وإن كان موسرا.
وذهب الإمام أبو حنيفة رضي اللّه عنه إلى جواز نكاح الأمة لمن ليس تحته حرّة، سواء أكان واجدا طول حرة أم لا، وسواء أخشي العنت أم لا، وسواء أكانت الأمة مسلمة أم لا، واحتج الحنفية على ذلك بالعمومات الكثيرة، كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} [النساء: 3] وقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} [النور: 32] وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} وقوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، وجميع ذلك يتناول الإماء الكتابيات، ولم يشترط فيه عدم الطول، ولا خوف العنت، فلا يخرج منه شيء إلا بما يوجب التخصيص، ولم تنتهض هذه الآية التي معنا حجة مخصّصة! أما أولا: فلأنّها ما دلت على ما ذهب إليه المخالف إلا بمفهوم الشرط، ومفهوم الصفة، وهما ليسا بحجة عند الإمام رضي اللّه عنه.
وأما ثانيا: فعلى تقدير الحجّيّة يكون مقتضى المفهومين عدم الإباحة إذا اختلّ الشرط أو عدمت الصفة، وعدم الإباحة أعمّ من ثبوت الحرمة أو الكرامة، ولا دلالة للأعم على ما خص بخصوصه، فيجوز ثبوت الكراهة عند فقدان الشرط، كما يجوز ثبوت الحرمة سواء بسواء، والكراهة أقلّ في مخالفة العمومات، فتعيّنت، فقلنا بها.
وقالوا في قوله تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}: إنه ليس بشرط، وإنما هو إرشاد للإصلاح، لعموم مقتضى الآيات.
وأجاب الشافعية: بأن هذه العمومات لا تعارض الآية التي معنا إلا معارضة العامّ للخاص، والخاص مقدّم على العام، وبأن الحنفية خصصوا عموم هذه الآيات فيما إذا كان تحته حرة، فقالوا: لا يجوز له نكاح الأمة، وإنما خصّصت لصون الولد عن الإرقاق، وهذا المعنى قائم في محل النزاع، فيجب أن يعطى حكمه، وهو عدم الجواز، وبأن صون الولد عن الإرقاق يمنع من نكاح الأمة، ولكن الآية أباحته لضرورة من خشي العنت، وفقد الطّول إلى الحرة، وشرطت أن تكون الأمة مسلمة، ففيما عدا ذلك يرجع إلى الأصل وهو المنع من النكاح.
روي عن أبي يوسف رحمه اللّه أنه تأوّل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} على عدم وجود الحرة في عصمته، وأن وجود الطول هو كون الحرة تحته، وعليه يكون المراد بالنكاح في قوله: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ} الوطء، ويكون التقدير: ومن لم يستطع منكم وطء الحرة. إلخ. والذي لا يستطيع وطء الحرة هو من لا يكون تحته حرة، فيكون منطوق الآية مساويا لقولنا: ومن ليس تحته حرة فلينكح أمة، وبذلك تنقلب الآية حجة للحنفية.
قال الفخر الرازي: وجوابه أن أكثر المفسرين فسروا الطول بالغنى، وعدم الغنى تأثيره في عدم القدرة على العقد، لا في عدم القدرة على الوطء. اهـ.
نزيد على ذلك تأويل أبي يوسف رحمه اللّه مع مخالفته رأي الجمهور من المفسرين لم ينه الإشكال بتمامه، إذ لا يزال الوصف في قوله تعالى: {مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ} محل خلاف، وكذلك قوله: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} لا يزال أيضا محل خلاف. ألهما مفهوم يعمل به أم ليس لهما مفهوم؟ ويعود الكلام من أوله، وتعود الشبهة جذعة.
وللحنفية دليل خاص بجواز نكاح الأمة الكتابية، وهو قياسها على الحرة والمملوكة الكتابيتين.
وأجاب الشافعي بأنه إذا تزوّج الحرة الكتابية، أو وطئ مملوكته الكتابية، فهناك نقص واحد، أما إذا تزوّج الأمة الكتابية فهناك نقصان الرق والكفر، فظهر الفرق.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ} معناه اعملوا على الظاهر في الإيمان، فإنكم مكلفون بظواهر الأمور، واللّه يتولى السرائر، فالإيمان الظاهر كاف في صحة نكاح الأمة، ولا يشترط فيه العلم بالإيمان علما يقينيا، إذ لا سبيل لكم إليه.
{بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} فيه تأويلان:
الأول: أنكم وفتياتكم من جنس واحد، وكلكم أولاد آدم، فلا تستنكفوا أن تنكحوا الإماء عند الضرورة.
والثاني: أنكم مشتركون في الإيمان، والإيمان أعظم الفضائل، فالتفاوت فيما وراءه لا ينبغي الالتفات إليه. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} [الحجرات: 13] وهذا التأويل يقوّي قول الشافعي إن الإيمان شرط في نكاح الأمة، وعلى كلا التأويلين الجملة معترضة لتأنيس قلوبهم، وإزالة النفرة عن نكاح الإماء، وكانوا في الجاهلية يفتخرون بالأنساب، ويضعون من شأن الابن الهجين، فأعلمهم اللّه بهذه الكلمة أنّه لا فضل لأحد على أحد إلا بالدّين، وأنه لا ينبغي التخلّق بأخلاق الجاهلية الأولى.